التخطي إلى المحتوى

الأزمة السودانية الحالية هي إحدى ملامح مشروع أجنبي واسع تحرّكه قوى دولية نافذة بامتياز بهدف إحداث تحوّلات بنيوية جارفة في مكونات المجتمع السوداني؛ الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، وهو مشروع قديم متجدّد، ظهرت معالمه بشكل واضح منذ بداية نظام الإنقاذ في العام 1989.

الصراع المحتدم حول السودان، تحرّكه دوافع اقتصادية وجيوسياسية وأيديولوجية متداخلة، وهو جزء من خطة إعادة تشكيل المنطقة التي تقودها دول المركز. لقد شهد الصراع بين حكومة الإنقاذ من جهة، ودول الغرب حالات من المدّ والجزر، بالذات مع الولايات المتحدة الأميركية التي اختارت السودان لبناء أكبر سفارة لها في المنطقة، وبريطانيا التي لعب سفيرها دورًا أساسيًا في تبنّي ثورة ديسمبر/كانون الأول، وإسرائيل التي ظلت عينها على السودان منذ استقلاله، وتمكّنت هذه القوى من إسقاط نظام الإنقاذ بعد أن صمد قرابة ثلاثة عقود.

ومنذ ذلك الحين تعددت وسائل التدخل الخارجي في الشأن السوداني، وتعدد اللاعبون في الميدان، ولكنهم جميعًا عبارة عن أحجار في رقعة الشطرنج تحركها قوى كبرى فاعلة تعمل من وراء ستار، وتنتهي مهمة كل لاعب متى ما انتهى من لعب الدور المرسوم له.

تبنّت الولايات المتحدة وبريطانيا سياسة تمزيق السودان تدريجيًا، عندما طبقتا سياسة شد الأطراف، ودعمتا حركات التمرد التي تناسلت مثل الفطر في ربع القرن الأخير، وفرضتا حظرًا اقتصاديًا مجحفًا، وأغلقتا كل أبواب التمويل والتعاون المتكافئ مع المؤسسات الدولية. وتولت إسرائيل مهمة مراقبة سياسة تمزيق السودان، باعتبارها دولة وظيفية كما يصفها الدكتور المسيري. وبدورها، سخّرت إسرائيل قوى إقليمية ودول جوار لتنفيذ هذا المشروع. وهذا ما نحاول استعراضه في إيجاز في هذا المقال.

نافخو الكير

وقد يكون من المؤسف القول؛ إن دولة بعينها تلعب دور رأس الرمح في إذكاء نار الحرب المستعرة في السودان، وذلك بدعمها الشامل، قوات الدعم السريع المتمردة.

وتبدو السياسة العدائية لهذه الدولة تجاه الشعب السوداني، محيرةً إلى حد كبير؛ فقد كان يمكنها تحقيق كل مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية في السودان بالحسنى، وبتكلفة أقل من فاتورة الحرب الباهظة التي تدفعها الآن.

سُئل السياسي البريطاني ونستون تشرشل: لماذا لا تتبع أميركا الطريق الصحيح وتبدأ بالحسنى أولًا قبل القوة، فقال: “أميركا تفعل الشيء الصحيح دائمًا ولكن بعد أن تستنفد كل الطرق الأخرى”.

الخصوم الأفارقة

منذ بداية الحرب في السودان اتخذت كل من إثيوبيا، وكينيا أيضًا موقفًا داعمًا بلا مواربة لقوات الدعم السريع، وسعت كلتا الدولتين لتسخير”الإيغاد”؛ لفرض حل جائر، وإجبار الحكومة السودانية والقوات المسلحة للقبول به، بل سعت هاتان الدولتان إلى تكوين تحالف عسكري ضد الجيش السوداني. كما فتحتا أراضيهما لاستقبال قائد التمرد رسميًا، واستضافتا عدة اجتماعات لقوى الحرية والتغيير.

إلا أن سياسة استغلال منبر الإيغاد لم تنجح، فقد كان موقف السودان قويًا وحاسمًا بتجميد عضويته في المنظمة مما أفقدها القدرة على الحركة، وأفقدها مصداقيتها، رغم المحاولات المستمرة من بعض القوى لإذكاء الروح فيها من جديد.

مواقف إثيوبيا وكينيا العدائية تجاه السودان، تفسرها العلاقات الغامضة بين قادة هاتين الدولتين وزعيم حركة التمرد. لقد سبق أن زار الرئيس الكيني الحالي السودان في العام 2020، والتقى قائد التمرد في أحد مناجم الذهب في شمال السودان، وهي زيارة أثيرت حولها تساؤلات كثيرة. أما إثيوبيا فقد اتخذت موقفًا لم يراعِ خصوصية علاقاتها بالسودان، بل لم يراعِ كثيرًا واقع الحال في إثيوبيا نفسها التي تتناهشها حروب القوميات والتي وصلت حتى العاصمة أديس أبابا، فقد كان رئيس الوزراء الإثيوبي مرجوًا عند السودانيين، حتى اتخذ موقفًا شائنًا بدعمه للتمرد وسعيه لتشجيع التدخل الأجنبي في الشأن السوداني.

أما موقف الحكومة التشادية فقد كان أنكأ، فعند بداية الحرب، أعلنت تشاد موقفًا محايدًا وداعمًا للجيش السوداني، وهو الموقف الطبيعي الذي ينسجم مع علاقات البلدين التاريخية.

ولكن الموقف التشادي تغير بشكل غريب بعد الزيارة التي قام بها الرئيس محمد كاكا إلى تلك الدولة العربية التي تدعم التمرد في يونيو/حزيران 2023. فأصبحت هي الأخرى داعمًا رئيسًا لحركة التمرد، وذلك رغم نفي الحكومة التشادية الرسمي لذلك. إلا أن السودان قدم معلومات لا تقبل الجدل عن مدى استغلال التمرد للأراضي التشادية في مذكرته التي دفع بها إلى الأمم المتحدة في شهر مارس/آذار الماضي.

لقد حاول الرئيس محمد كاكا في كتابه الصادر هذا الشهر بعنوان: “من بدوي إلى رئيس جمهورية”، نفي وإنكار أية علاقة بدعم مليشيا الدعم السريع، وقال؛ إن بناء مستشفى (تموله الدولة العربية الداعمة) في أم جرس هو عمل إنساني بريء لمساعدة اللاجئين.

ولكن هذا النفي لم يكن مقنعًا، ربما حتى للشعب التشادي نفسه، وقد عبّر الرئيس عن ذلك في كتابه عندما قال: “إنني مستاء من رد فعل بعض التشاديين الذين يقومون بتبني وترويج الاتهامات التي يطلقها سياسيون سودانيون ضد تشاد، والانسياق وراء الخطاب المشوه للسمعة الذي تروجه وسائل التواصل الاجتماعي”.

هذه الدول الثلاثة ستكون الخاسر الأكبر في علاقاتها مع السودان إذا انتهت الحرب الحالية بانتصار الجيش والإرادة القومية السودانية كما هو مأمول، ما لم تبادر إلى تغيير سياساتها وتصويب خياراتها قبل فوات الأوان.

مطفِئو الحرائق

بالمقابل، فإن هناك عددًا من دول الجوار والقوى الإقليمية تسعى بجد منذ بداية الحرب لإطفاء نار الفتنة، واتخذت مواقف واضحة بدعم الشرعية التي تمثلها القوات المسلحة السودانية. على رأس هذه الدول تأتي جمهورية مصر العربية، بموقفها الواضح الداعم للجيش السوداني منذ بداية الحرب الحالية.

الموقف المصري يتسق تمامًا مع العلاقات التاريخية بين مصر والسودان، لقد أثبتت القيادة المصرية مرة أخرى أنها تفرق بين المواقف الإستراتيجية وبين السياسات المرحلية تجاه نظام بعينه أو حالة بعينها كفعل طارئ في علاقات البلدين الممتدة.

استضافت مصر أكبر عدد من اللاجئين السودانيين، ولم تفرق بينهم بسبب انتماءاتهم السياسية، كما تبنت مبادرة دول الجوار السوداني والتي نجحت في دعم المؤسسة العسكرية السودانية والدفع في اتجاه الحل السلمي الشامل للأزمة.

وفي الواقع، فإنه من غير الممكن اعتماد حل ناجز للأزمة السودانية دون إشراك مصر. وتميز أيضًا الدور الإيجابي للحكومة الإريترية، وذلك عندما أعلن الرئيس أفورقي منذ اليوم الأول موقفًا قويًا داعمًا للجيش، ورافضًا لمغامرة الدعم السريع ومناصريها.

كما وقفت حكومة جنوب السودان موقفًا داعمًا للجيش السوداني، وكانت حكومة الجنوب واضحة عندما أكدت أن اشتراك بعض مواطنيها في الحرب إلى جانب الدعم السريع هو عمل فردي ترفضه الدولة.

وينشط الرئيس سلفا كير والدبلوماسية الجنوبية السودانية في الدفع نحو حل سلمي للأزمة مع تأكيد دعمها الدائم للمؤسسة العسكرية السودانية. ورغم تعقيدات الوضع الداخلي في ليبيا فقد دعمت حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس الجيش السوداني، وسعت إلى طرح مبادرة للصلح.

أما على المستوى الإقليمي والدولي، فقد تميز الدور الذي قامت به المملكة العربية السعودية، عندما تبنت منبر جدة باعتباره المنبر الوحيد الفاعل حتى الآن، وبرغم من أن حركة التمرد لم تلتزم حتى الآن بما وقعت عليه في منبر جدة فإنه لا يزال يشكل آلية مناسبة للبحث عن حل تفاوضي عادل للحرب السودانية.

من أهم التطورات الدولية في الحرب السودانية هو تغير الموقف الروسي من موقف داعم بقوة للتمرد عبر مجموعة فاغنر إلى شريك دولي يدعم الجيش السوداني ويسعى للبحث عن حل سلمي عادل للحرب، وقد تغير الموقف الروسي بعد وفاة مؤسس فاغنر، وإعادة هذه المؤسسة المتمردة إلى حضن وزارة الدفاع الروسية.

وأخيرًا؛ فإن الحرب الجارية قد نفخت الروح في العلاقات السودانية – الإيرانية، وأصبحت إيران داعمًا أساسيًا للجيش السوداني، وأحدثت المسيّرات الإيرانية تقدمًا كبيرًا للجيش في أرض المعركة جعلته قاب قوسين أو أدنى من النصر الحاسم.

بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك دولًا أخرى اتخذت موقفًا واضحًا بدعم الجيش السوداني والحفاظ على الدولة السودانية، وقدمت مساعدات إنسانية ومادية معتبرة، منها على سبيل المثال لا الحصر: تركيا وقطر والجزائر والمغرب والصين والكويت. هذه القوى ستكون الرابح الكبير عند انجلاء الحرب الحالية لصالح الجيش والشعب السوداني.

دبلوماسية الصبر

لقد تبنَّى السودان طوال هذه الحرب دبلوماسية الصبر، والتي رغم أنها أثارت كثيرًا من القلق والخوف إلا أنها حققت نجاحات واضحة في نهاية المطاف.

ربما تأخرت الدبلوماسية السودانية في نظر العديد من المراقبين، ولكن الدبلوماسية السودانية لها القدرة والخبرة على استدراك ما فات واستثمار ما هو آتٍ. ولنتذكر على سبيل المثال لا الحصر أن السودان سبق أن واجه حصارًا شديدًا من حركة التمرُّد في جنوب السودان التي استطاعت أن تحشد الرأي العام الأفريقي ضد السودان بشكل غير مسبوق، ولكن الدبلوماسية السودانية عندما أفاقت استطاعت في سنوات قليلة أن تسود وتقود في الشأن الأفريقي والإقليمي على السواء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

Source link

كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على المصدر اعلاه وقد قام فريق التحرير في كل المصادر بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *