تحدثنا في مقالنا السابق عن ملكة الفقه والفتوى عند حسن البنا، على خلاف ما يجهله الكثيرون من الباحثين في الحركات الإسلامية، أو من يصدرون رأيًا دون التريث بالبحث والتقصي، وما ذكرناه في مقالنا السابق اختصارًا، وتلميحًا لمحاور لم نستطع أن نشبعها بالنقول والأقوال التي تمثل مخزونًا فقهيًا مهمًا لأحد أشهر الدعاة المعاصرين، والذي أسس حركة جمعت بين العمل الدعوي في الميادين التقليدية للدعوة، وولوج معترك السياسة، سواء المحلية أو الدولية، ولذا كان من المهم أن نقف على ما صدر من آراء فقهيّة أو فتاوى للبنا، تتعلق بهذا الجانب السياسي.
والمقصود هنا: تناول الفتاوى التي تتقاطع مع السياسة، ولست أعني هنا الحديث عن الفكر السياسيّ عند البنا، حيث دراسة مواقفه السياسيّة، من حيث الرأي أو الأداء، وهو الغالب على الدراسات التي تناولت هذا الجانب عند البنا، وكان أقواها وأشهرها دراسة صدرت عن الفكر السياسي عند حسن البنا، وقد كانت رسالة ماجستير للدكتور إبراهيم البيومي غانم، وهي دراسة مستفيضة ومهمة، وغطت الموضوع بشكل علمي دقيق. لكن حديثنا عن الفتاوى السياسية، من حيث موقفه من السلطة في مصر، وموقفه من العدو المحتل، وكيفية التعامل معه، وذلك من خلال فتاوى صدرت عن البنا، وليست مشهورة ولا معلومة عنه.
تطبيق الحدود على أعضاء الجماعة
كثيرًا ما يشاع عن البنا من أنه ينظر للوطن، أو لمصر، نظرة فوقية، أو بعدم الانتماء، وهي نظرة تنتج عن التصنيف السياسي، لا القراءة المدققة عن الشخص، فقد كان البنا يتعامل مع السلطة في مصر، على أنها سلطة شرعية، حتى لو اختلف معها في عدد من القضايا، كبرت أم صغرت، وأن عليه إن أراد الإصلاح أن يكون ذلك عن طريق النضال الدستوري، بالوسائل المشروعة.
وهناك فتوى غير معروفة للبنا في موضوع دقيق، وخطير أيضًا، يتعلق بتطبيق الحدود في مصر، وقد وصله اقتراح من أحد الإخوان، أن تبدأ الجماعة بتطبيق الحدود على أفرادها، فمن يقع في زلل يستوجب العقوبة، يذهب للجنةٍ تقيمها (الإخوان)، وتقوم بتنفيذ العقوبة عليه، فأجابه البنا على اقتراحه قائلًا: (لا أريد أن نكون قومًا نظريين، وأحب من كل أخ مسلم أن يضع الناحية العملية في حسابه دائمًا، ويجعلها أساس مقترحاته. إن تنفيذ اقتراح الأخ يتوقف على وجود أخ مسلم يرتكب جرمًا يستوجب حدًا من حدود الله. فيتقدم هذا الأخ مختارًا إلى اللجنة المقترحة معترفًا بذنبه، مقرًا بجرمه، طالبًا إقامة الحد عليه، وبغير وجود هذا الصنف لا يكون لهذه اللجان عمل، وتكون هيئة نظرية بحتة، فإذا وُجد هذا الأخ، فالذي أقترحه عليه: أن يتقدم هو بنفسه إلى الحكومة القائمة معترفًا بجرمه، طالبًا إليها أن تقيم الحد عليه، فإذا أبت ذلك، فليتقدم إلى الإخوان بطلبه هذا، وحينئذ يستطيع الإخوان أن يتخذوا من ذلك وسيلة إلى مؤاخذة الحكومة بجريمة الإهمال والتعطيل وإلى أن يطلبوا إليها الترخيص لهم بهذه اللجان.
وبما أن ذلك بعيد الوقوع، فليس أمام الإخوان المسلمين في الحقيقة إلا أن يواصلوا جهادهم حتى يوقظوا الشعب من سباته، ويكتسبوا الرأي العام إلى صفهم. ولا زال في الشعب المصري والحمد لله يقين وإيمان. وبهذه الطريقة يكونون الحكومة الإسلامية التي تعدل القوانين وفق الإسلام. أو ترغم الحكومات القائمة على سلوك هذا السبيل).
نجاسة المحتل
ومن فتاواه السياسية المتعلقة بالعلاقة بالمحتل لبلاد المسلمين: فتواه بنجاسة المحتلين نجاسة معنوية وحسية، وقد بناها على قاعدة: تغيّر الفتوى بتغيّر الزمان والمكان، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس) التوبة: 28، فقال البنا: (وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المشرك نجس نجاسة حسية ومعنوية، وحُكي هذا القول عن: ابن عباس، والحسن البصري، ومالك، وعن الهادي، والقاسم، والناصر من أئمة أهل المعتزلة، وهو مذهب جمهور الظاهرية والشيعة الإماميَّة، وبناء على هذا الرأي: فإن من صافح مشركًا وَجَبَ عليه أن يطهر يده من نجاسته.
وجمهور أئمة المسلمين على خلاف هذا الرأي، ومنهم أهل المذاهب الأربعة، وقد حملوا الآية على النجاسة المعنوية. والسنة تؤيِّد ذلك، وأحكام الإسلام العملية تعزِّزه.
هذا هو رأي جمهور أئمة المسلمين، على أننا نأخذ بالرأي الأول عمليًّا إذا ما استمرَّ عدوان دولهم وشعوبهم على حرياتنا وخيرات بلادنا، والإسلامُ صالحٌ لكل زمان ومكان وحال.
(وكالسيف إن لاينته لان متنه وحَدَّاه إن خاشنته خَشِنَان).
دليل فقهي غير مسبوق عن المقاطعة
ومما يعد من دلائل امتلاك حسن البنا الملكةَ الفقهيةَ، وحسنَ استظهار النصوص القرآنية والنبوية، للاستدلال على القضية التي يراد مناقشتها، ما رأيناه عند البنا حين دعا لمقاطعة المحتلين، ومقاطعة بضائعهم ومنتجاتهم، وكان كلامه في وقت مبكر جدًا من انتشار دعوات المقاطعة للمحتلين عند الشيوخ، ولكن الدليل الذي ساقه البنا لم نرَه من قبل أو عند أحد معاصريه، ففي أحد مقالاته في باب كان يكتبه كل يوم جمعة، بعنوان: حديث الجمعة، وهو حديث مكتوب، غير حديث الثلاثاء الذي يلقيه ثم ينشر، كتب مقالًا بعنوان: مقاطعة، يتحدث فيه عن حادثة بئر الرجيع، وحادثة بئر معونة، ورفض أحد الصحابة الاستسلام للمشركين حتى لا يؤسر، فقال البنا:
(وأما عاصم رضي الله عنه فقد أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعيد، وهي أم مسافع وجلاس ابني طلحة العبدري، وكان عاصم قتلهما يوم أُحد، فنذرت حين أصاب ابنيها: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربنّ الخمر في قحفه، وجعلت لمَن جاء برأسه مائة ناقة، ولكن هذيلًا لم تستطع أن تصل إلى جثمان عاصم، أو تمس شيئًا من بدنه، فقد أرسل الله عليه ظلة من الدبر (وهو النحل الكبير) فكلما قربوا منه ذاقوا من لسعه مرّ العذاب، فلم يقدروا منه على شيء.
وكان عاصم قد أعلنها على المشركين مقاطعة عامة شاملة: ألا يمس مشركًا، وألا يمسه مشرك، وعاهد الله على ذلك، فصدقه الله، وكانوا يسمونه: محمي الدبر، وغاب جثمانه عن أعينهم، فلم يعلموا أين ذهب به، وبلغ خبره عمر- رضي الله عنه- فقال: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته.
أيها المسلمون: أول الجهاد المقاطعة، وهكذا فقاطعوا إن كنتم مؤمنين، واحفظوا الله يحفظكم الله).
تحريم التجنُّس بجنسية المحتل
ومن فتاواه السياسية التي يظن البعض أنها متشددة، فتواه بتحريم التجنس بجنسية أجنبية، خاصة الأجنبي المحتل، حيث كثر في الثلاثينيات من القرن العشرين عرض هذا السؤال من كثير من المسلمين في البلدان المحتلة: هل يجوز التجنس بجنسية المحتل الأجنبي؟ وقد شاع ذلك في تلك الآونة، في تونس والجزائر، وغيرهما من الدول العربية والإسلامية المحتلة. وكان من بين من طُلبت منهم الفتوى في ذلك حسن البنا، فأجاب بما يلي:
(مجرد تجنس المسلم بأية جنسية أخرى لدولة غير إسلامية؛ كبيرة من الكبائر، توجب مقت الله وشديد عقابه. والدليل على ذلك ما رواه أبو داود عن أنس قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- : “من ادعى لغير أبيه، أو انتمى لغير مواليه؛ فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة”، والآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى، وهي قول الله – تبارك وتعالى- : (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) آل عمران: 28، فكيف إذا صحبه بعد ذلك واجبات وحقوق تبطل الولاء بين المسلمين، وتمزق روابطهم، وتؤدي إلى أن يكون المؤمن في صف الكافر أمام أخيه المؤمن، وإن خيرًا للمسلم أن يدع هذه الديار وأمثالها إن تعذرت عليه الإقامة فيها إلا بمثل هذه الوسيلة، وأرض الله واسعة).
لم يكن البنا وحده من منع التجنّس آنذاك، فقد حرّم ذلك بأشد درجات التحريم: جلّ علماء المسلمين الذين أفتوا في الموضوع، كابن باديس، والإبراهيمي، وابن عاشور، ورشيد رضا، بل منهم من كان في عباراته أشد من حسن البنا، وقد علل ذلك القرضاوي بأنهم نظروا لواقع هذا الاحتلال مع أهل البلد، وأنه بتغيّر هذه المعاملة تغيرت الفتوى بالجواز بشروط وضوابط، فبحكم التطور العالمي، واقتراب الناس بعضهم من بعض، وحاجة العالم بعضه إلى بعض، وتغير صفة بعض الدول من دول استعمارية ظالمة للمسلمين، إلى دول حليفة أو شريكة للمسلمين.
فتاوى تنمّ عن فقه سياسي رشيد
نستطيع بعد تَجوال سريع في فتاوى البنا السياسية، أن نرى نظراته الفقهية التي تنطلق من أدلة الفتوى العلمية الرصينة، مع إلمام كبير بالواقع الذي تصدر فيه الفتوى، وتنزيل دقيق ومتبصر للنصوص على الواقع، مع نظر لمآلات الفتوى، مع حضور مذهل وقوي للرأي الفقهي الذي يؤدي للهدف المنشود المشروع، فيحسن الاختيار والتدليل، من حيث اختيار الوجهة الفقهية، أو التدليل عليها، كما أن سداد رأيه في كثير من هذه الفتاوى يرجع لتمرسه بالشأن العام، عملًا وممارسة، وتنظيرًا وتأصيلًا، وهو ما يغيب كثيرًا عن فتاوى عدد من المشايخ في الشؤون السياسيّة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على المصدر اعلاه وقد قام فريق التحرير في كل المصادر بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.
التعليقات