على كلّ المستويات لا يبدو مشروع الدولة الإسرائيليّة حدثًا طبيعيًا. هذه ليست دعوة لمحو إسرائيل من الوجود، بل ملاحظات حول تناقضات المشروع العصيّة على الحل. منذ مائة عام والمجتمع الإسرائيلي يطلق النار في كل اتجاه، ويومًا ما سيدركه الإعياء وسيضع السلاح أو سيترك البلاد. ما من دولة- أمّة – قاتلت مائة عام، ثم استقرّت. بعد مائة عام من الحروب تكون الدولة- المشروع- قد نجحت في جعل التحديات الوجودية مستدامة، وراكمت من السرديات المعادية ما لا يمكن القفز عليه من خلال علاقات شكلية مع أنظمة الحكم ونخبه.
القانون الأساسي الإسرائيلي لسنة 1992 يحدد طبيعة الدولة على نحو غير قابل للحياة: إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية. تسْخر دوريت بينيش، الرئيس رقْم 9 للمحكمة العليا في إسرائيل، من هذا التعريف قائلة: إنه ما من أحد داخل المجتمعَين؛ العلماني والديني، يفهم ما المقصود، لا أين يقف الدين، ولا من أين تبدأ العلمانية.
يشكل العلمانيون 40% من بنية المجتمع الإسرائيلي، ويعيش حوالي 20% من غير اليهود كمواطنين داخل الدولة (بيو سنتر، 2016). هذه الحقيقة تجعل إسرائيل تراوح في مكانها بين الدين والعلمانية، تقاتل الأعداء بوصفها مشروعًا ديمقراطيًا، يتعرض للعدوان، كما تسيطر على الأراضي الفلسطينية انطلاقًا من دعاوى توراتيّة غير متساوقة مع الادعاء الديمقراطي- الليبرالي.
منذ مائة عام والمجتمع الإسرائيلي يطلق النار في كل اتجاه، ويوماً ما سيدركه الإعياء وسيضع السلاح أو سيترك البلاد. ما من دولة- أمّة قاتلت مائة عام ثم استقرت
تعرّف إسرائيل “الأمة” على أساس إثني محض لا علاقة له بالمدونة الليبرالية للحقوق، كما يجادل يوري رام أستاذ السوسيولوجي في جامعة بن غوريون. على الصعيد الشعبي يبدو الأمر أكثر اختلاطًا في الذهن الإسرائيلي. في الاستطلاع الذي أجراه (بيو سنتر، 2016)، قال 76% من يهود إسرائيل: إنهم يرون تناغمًا بين يهودية الدولة والديمقراطية. في الوقت نفسه رأى 79% منهم أن على الدولة “الديمقراطية” أن تمنح امتيازات تفضيلية للمواطنين اليهود دون غيرهم.
لاحظ شبلي تيلهامي، أستاذ الحوكمة والسياسة في جامعة “ماري لاند”، في مقالة في “فورن بوليسي، 2020″، أن قانون “الدولة- الأمة” الذي أصدرته السلطات الإسرائيلية في العام 2018، يؤكد، على نحو قاطع، أن “اليهودي فقط هو من يملك الحق في أن يحدد مصير هذه الدولة”. الدولة التي تصدر مثل هذا القانون لا يمكنها أن تكون ديمقراطية، فهي لا تقسّم مواطنيها على حسب الديانة وحسب، بل تستبعد غير اليهودي من النقاش المتعلق بمستقبل الدولة وماهيتها.
مهمّة المواطن الإسرائيلي غير اليهودي تنحصر في دفع الضرائب والإدلاء بصوته في الانتخابات. طبيعة الدولة في ذهن قادتها وشعبها غير واضحة، ولا يبدو الغرب مستعدًا لقول شيء في هذا الشأن. بدلًا عن ذلك، تستمر صالونات النقاش؛ السياسي والأكاديمي، في الحديث عن المشروع الليبرالي الوحيد جنوب البوسفور؛ عن “أولئك الذين يشبهوننا”.
محددات عصية على النضج
المحددات التاريخية لمشروع الدولة الإسرائيلية عصية على النضج: لا تعريف الأمة، ولا من هو اليهودي، لا طبيعتها السياسية، ولا معنى المواطَنة. لا يوجد شيء اعتيادي في المشروع. داخل مبادرة السلام التي قدمها ترامب، الممتدة على 181 صفحة، تقول فقرة مثيرة للجدل: إن إسرائيل تنوي التخلي عن عشر قرى في شمال تل أبيب، أو ما يعرف بالمثلّث، بكل سكانها وإعادتها إلى السلطة الفلسطينية. يسكن في المثلث ما يزيد على 350 ألف مواطن عربي من حملة الجنسية الإسرائيلية. ما يعني أن الدولة “الديمقراطية” ستجردهم من جنسيتهم دون نقاش معهم، وستلقي بهم إلى حوزة سلطة أجنبية، بحسب تقرير لـ “واشنطن بوست” في فبراير/شباط 2020.
كان ديفيد فريدمان، سفير ترامب لدى إسرائيل، أحد أبرز صاغة مشروع السلام، ويعرف عنه ترديده للادعاءات التوراتية حين يتعلق الأمر بمسألة السلام في الشرق الأوسط. لا يمكن فهم ما ورد في مبادرة ترامب للسلام سوى داخل هذين المحددين: الأول: توراتيّة الدولة التي لا تحتمل تحت سقفها مواطنًا من خارج ديانتها. الثاني: نوايا مستمرّة للتطهير العرقي، هذه المرّة في سياق مشروع للسلام في حقيبة دولة ليبرالية عظمى. عرب إسرائيل، الذين سيلقَى بهم إلى الخارج، هم في نهاية الأمر “العدو النهائي للدولة اليهودية”، كما يراهم المفكّر اليهودي- الأميركي دانيال بايبس، أحد أبرز الخبراء في شؤون الشرق الأوسط في الصحافة الأميركية.
لم يتغيّر الشيء الكثير في وضعية الدولة الإسرائيلية منذ وعد بلفور، إذ لا تزال في الشرنقة. قاتلت جيرانها في العام 1967 على ثماني جبهات حول المسألة نفسها: تطهير فلسطين من العرب. هي الآن، 2024، تقاتل على سبع جبهات، وَفقًا لقادة جيشها، حول نفس النار. ترفض إسرائيل أن تعيش كدولة طبيعية، حتى وهي تتنفس في محيط معادٍ يمتد من أذربيجان إلى موريتانيا. تحت مظلة من سفن الغرب وصواريخه تبحث إسرائيل عن استقرار طويل المدى. يغيّر التاريخ موازين القوى، فقد أطاح بالإمبراطورية التي حرست فلسطين خمسة قرون من الزمن، ثم تركتها على قارعة الطريق.
المحددات التاريخية لمشروع الدولة الإسرائيلية عصية على النضج، لا تعريف الأمة، ولا من هو اليهودي، لا طبيعتها السياسية، ولا معنى المواطَنة. لا يوجد شيء اعتيادي في المشروع
بمقدور إسرائيل حماية نفسها من خلال عملية سلام عادلة تتيح لها النمو إلى جوار شعوب وأنظمة المنطقة. منذ ثلثي قرن وهي ترفض الاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة. الخيارات المتاحة أمامها تبدو مستحيلة أو تدميرية. تحت سقف إسرائيل الكبرى، أو فلسطين التاريخية، تساوى عدد اليهود والعرب لأول مرّة في التاريخ: سبعة ملايين لكلا الطرفين. من المتوقع أن يتجاوز العرب جيرانهم اليهود من حيث العدد في العقد القادم. فبحسب تقرير لليونيسيف، يناير/كانون الثاني الماضي، فإن حوالي 20 ألف طفل فلسطيني وُلدوا في غزة في الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب. استطاع المفكر السياسي الأميركي ميرشايمر أن يلخص الورطة الوجودية لإسرائيل على هذا النحو: إما أن تقبل بالوضعية الديمقراطية، ما سيعني وصول العرب إلى مقاليد الحكم، أو دولة يهودية لاهوتية، ولن يتحقق لها ذلك إلا من خلال الفصل العنصري “الأبارتهايد”. مع الأيام ستبدو عاجزة عن التعامل مع العنصر السكاني العربي النامي، وستنهار الجدران كما حدث مع غزة التي انفجرت سكانيًا من 1.3 مليون في العام 2005 إلى 2.3 مليون في العام 2023.
الخيار الثالث، وهو أيضًا غير ممكن؛ أن تبادر إلى تهجير عرب فلسطين إلى خارج الحدود. لا تملك إسرائيل، ولا داعموها الغربيون، إجابة لهذه المعضلة. كل معضلة إسرائيلية هي مسألة غير قابلة للحل، ذلك ما جعلها تقف خلف البندقية منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي.
أفقيًا تبدو الدولة عصية التضاريس، ففي فبراير/شباط الماضي احتفل اليمين اليهودي في مدينة القدس بما أسموه “يوم النصر”. في الاحتفالية ردّدت الجماهير بصوتٍ عال: “ترانسفير، ترانسفير”، وهو تعبير يقصد به تهجير عرب فلسطين إلى دول أخرى. برّر نتنياهو ما جرى بالقول: إن ديمقراطية بلاده تتسع لكل الآراء بما فيها تلك التي لا يتفق معها. غير أن هآرتس رأت، تحت عنوان “ديمقراطية لليمين فقط”، أن سلطات البلاد فضّت كل التجمعات المنادية بإيقاف إطلاق النار، وأن الديمقراطية رفضت الاستماع لحشود صغيرة من اليسار الإسرائيلي.
لنذهب بعيدًا حتى الأول من مارس/آذار 1920. آنذاك هبط مسلحون شيعة من جنوب لبنان إلى الجليل الأعلى واقتحموا “تل حي”، وكان مستوطنة يهودية صغيرة. حدثت مواجهة دامية بين الطرفين انتهت بأن أحرق المقاتلون الشيعة القرية اليهودية بما فيها. تعيش إسرائيل في ماضيها، ولا يزال المقاتلون الشيعة يطلقون المقذوفات النارية من جنوب لبنان كما فعلوا قبل مائة عام، وكنتيجة لذلك يفر اليهود من قراهم إلى المدن الآمنة.
لم يتغيّر الشيء الكثير، عدا أن العشرات كانوا يفرون من قبل، وهم الآن عشرات الآلاف. كما لو أن أحداث اليوم ليست سوى توسعة لما كان يجري قبل مائة عام. فثورة البراق، أغسطس/آب 1929، هي نفسها معركة “سيف القدس” 2021. في المعركتين قُدحت الشرارة بالقرب من المسجد الأقصى، أو بداخله.
المعضلة الجغرافية
إلقاء نظرة على فلسطين التاريخية يكشف عن معضلة أخرى غير قابلة للحل. لا يعلم الكثيرون، بمن فيهم من يجلسون في صالونات التحليل، أن مساحة الضفة الغربية تعادل مساحة إسرائيل إذا استبعدنا النقب. لتخيّل المعضلة الجغرافية التي تواجهها إسرائيل علينا أن ندرك التالي: تبلغ مساحة فلسطين التاريخية 26 ألف كيلو متر مربع، منها 6 آلاف هي مساحة الضفة وغزة. مدن إسرائيل تمتد على 6 آلاف كيلو متر مربع، بما يتساوى تمامًا مع مساحة الضفة الغربية. يشكل النقب 55% من مساحة البلاد، ويسكن فيه أقل من 10 %من السكّان.
بحسب اتفاقية أوسلو، فالضفة الغربية جرى تقسيمها إلى ثلاث مناطق: أ، الواقعة إداريًا وأمنيًا تحت السلطة الفلسطينية. ب، تقع إداريًا تحت السلطة الفلسطينية وأمنيًا تحت سيطرة فلسطينية- إسرائيلية مشتركة. ج، وهي منطقة واسعة تقع تحت السيطرة الإدارية والأمنية الإسرائيلية.
ثمة أهمية قصوى بالنسبة للمنطقة ج، فهي تشكّل حوالي 61% من مساحة الضفة الغربية، وتحتوي على معظم الموارد الطبيعية. في المنطقة ج تخوض إسرائيل حربًا مسيحانية خاسرة، بحسب تقرير مثير لهآرتس في مارس/ آذار الماضي ترجمته القدس العربي. تأخذ الحرب سباقًا سكانيًا بين الإثنيتين: العربية واليهودية.
بحسب هآرتس فإن عدد الإسرائيليين في المنطقة ج قفز من 311 ألف نسمة، عام 2010، إلى 490 ألفًا في العام 2023 بزيادة قدرها 58%. بينما قفز عدد الفلسطينيين من 77 ألفًا في العام 2010 إلى 354 ألفًا في العام 2023، بزيادة قدرها 504%. ترى هآرتس أن سبب التفوق الفلسطيني في تلك المعركة يعود إلى عزوف الإسرائيليين عن الهجرة إلى المنطقة ج، مقابل هجرة فلسطينية واسعة من المنطقتين: “أ” و”ب” إليها. عوضًا عن ذلك فإن عدد الإسرائيليين الذين يتركون المنطقة ج يفوق عدد الإسرائيليين الذين ينتقلون إليها. يرحل الفلسطينيون إلى المنطقة ج لخوض ذلك النوع النادر من الصراع برغم الحقيقة التي تقول؛ إن إسرائيل هدمت 8 آلاف منزل من منازلهم في الفترة بين 2010-2023.
تخلص هآرتس إلى استنتاج مؤلم يقول؛ “بدلًا من إدارة حرب مسيحانية خاسرة على قطعة أرض مأهولة بالفلسطينيين، وبدلًا من إهدار موارد الدولة في المشروع العقاري الأكثر فشلًا في تاريخها، علينا أن نغيّر الاتجاه”.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
كما تَجْدَرُ الأشاراة بأن الخبر الأصلي قد تم نشرة ومتواجد على المصدر اعلاه وقد قام فريق التحرير في كل المصادر بالتاكد منه وربما تم التعديل علية وربما قد يكون تم نقله بالكامل اوالاقتباس منه ويمكنك قراءة ومتابعة مستجدادت هذا الخبر من مصدره الاساسي.
التعليقات